الطرقاتُ فارغةٌ إلا من بعض المقاتلين الذين يجوبون المكان بحذر، وبعض طلقات النار التي تخترق الصمت بين الحين والآخر.. محاصرٌ أنا، وقد تآمرَت الذكريات المرَّة على ما تبقَّى من ضميري المنقسم بين (نعم) و(لا).
يالأبي المسكين! ليتهم قتلوه قبل والدتي وشقيقتي، فقد قتلوه بهما آلافَ المرَّات، وجسدُ حبيبته يُستباح وهو مقيَّدٌ لا حولَ له ولا قوَّة.. هذا شعرُها الذي سرَّحه، عيناها حيث سكن، هذان خدَّاها اللذان قبَّلَهما قبل الشفاه، هذان ثدياها الصغيران اللذان أحبَّهما وتلذَّذ بهما كما الرضيع، هذا حضنُها الذي افترشَهُ سريرًا، هذا مأوى ذكوريَّته، الذي أَفرَغ روحَه ومشاعرَه فيه، تقتحِمُه شهواتُ الكلابِ المسعورة.. حتى فلذةُ كبده التي أنجبَ، وهزَّ مهدها وغنَّى لها وبالت على كتفيه فضحِكَ، وابتاعَ لها السكاكر وملابس العيد، ها هي تستجديه فيصُمُّ أذنيه، تنظرُ فيُطأطئ رأسَه، توَدِّعه فيبكي فراقها. ها هو، وها هُنَّ، وها أنا أَلفظُ أنفاسَ روحي دونَ رمقٍ أخير.