حين تختلط السياسة بالدين والاقتصاد، وبالثقافة والاجتماع، وتطغى المادية ويحاول فلاسفتها ودعاتها ترسيخ مبادئها وتثبيت قواعدها ونشرها مغلَّفة بمظاهر المدنية الحديثة، ونزع الدين وقواعده من أصول الحياة وضوابطها، وحين تخرج أصوات دينية تتنكَّر للوسطية وتتخذ من التكفير والتشديد سبيلا لزعامة مرجُوَّة أو رياسة منشودة، وتجعله دِرعًا تتَّقي به المساءَلة والمحاسبة، حينها يكون لِزامًا علينا الاستماع إلى أصوات أهل العقل من الأصوليين والفلاسفة والتنويريين، وكل من يضع لبنة في صرح الحضارة الإنسانية، نساءً كانوا أو رجالا، منهم من يتحدث باسم السلطة، ومنهم من يعارضها، منهم من يتفق مع المؤسسة الدينية، ومنهم من يعارضها، منهم من يشجع الثورات ومنهم من يعارضها.
قد نتفق معهم وقد نختلف، لكن لا ننكر أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه العقول يحمل في طيَّات كلامه جزءًا من الحقيقة ولكل منهم حججه وأدلته، وكل منهم يسير في طريق يظن - من وجهة نظره - أنْ لا تلاقي له مع الآخر. ونحن لا نملك إلا مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل، ويبقى التدافع قائمًا.
ولمَّا كان إعمال العقل والفكر سنَّة ومطلبًا إلهيًّا، حاولنا في هذا الكتاب جمع هذه الآراء، فهذه الأوراق ليست مناقشة لآراء هذه العقول، وإنما رصد وتوثيق لها لإزالة الحواجز وتقريب المسافات بين الجانبين، ويبقى الهدف واحدًا وهو أن نصل لمرحلة التعاون لا التعاند، والتكامل لا التآكل. أما النتيجة التي يتوصل إليها العقل بعد الاعتماد على ما توفر لديه من الأدلة فهي التي ستصمد أمام الجميع. وأخيرًا تبقى الرؤى الصحيحة ويزول ما دونها.